الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)} نحن مع موكب الإيمان.. هذه أعلامه.. وهذه علائمه.. وهذه هي معالم طريقه.. وهو يواجه البشرية في رحلتها الطويلة على هذا الكوكب الأرضي.. يواجهها كلما التوت بها الطريق؛ وكلما انحرفت عن صراط الله المستقيم؛ وكلما تفرقت بها السبل. تحت ضغط الشهوات، التي يقودها الشيطان من خطامها، محاولاً أن يرضي حقده؛ وأن ينفذ وعيده، وأن يمضي ببني آدم من خطام هذه الشهوات إلى جهنم؛ فإذا الموكب الكريم يواجه البشرية بالهدى، ويلوّح لها بالنور، ويستروح بها ريح الجنة، ويحذرها لفحات السموم، ونزغات الشيطان الرجيم، عدوها القديم.. .. إنه مشهد رائع.. مشهد الصراع العميق، في خضم الحياة، على طول الطريق.. إن التاريخ البشري يمضي في تشابك معقد كل التعقيد.. إن هذا الكائن المزدوج الطبيعة، المعقد التركيب.. الذي يتألف كيانه من أبعد عنصرين تؤلف بينهما قدرة الله وقدره.. عنصر الطين الذي نشأ منه، وعنصر النفخة من روح الله، التي جعلت من هذا الطين إنساناً.. إن هذا الكائن ليمضي في تاريخه مع عوامل متشابكة كل التشابك، معقدة كل التعقيد.. يمضي بطبيعته هذه يتعامل مع تلك الآفاق والعوالم التي أسلفنا في قصة آدم الحديث عنها.. يتعامل مع الحقيقة الإلهية: مشيئتها وقدرها، وقدرتها وجبروتها، ورحمتها وفضلها.. الخ... ويتعامل مع الملأ الأعلى وملائكته.. ويتعامل مع إبليس وقبيله.. ويتعامل مع هذا الكون المشهود ونواميسه وسنن الله فيه.. ويتعامل مع الأحياء في هذه الأرض.. ويتعامل مع بعضه البعض.. يتعامل مع هذه الآفاق وهذه العوالم بطبيعته تلك، وباستعداداته المتوافقة والمتعارضة مع هذه الآفاق والعوالم.. وفي هذا الخضم المتشابك من العلاقات والروابط، يجري تاريخه.. ومن القوة في كيانه والضعف. ومن التقوى والهدى. ومن الالتقاء بعالم الغيب وعالم الشهود. ومن التعامل مع العناصر المادية في الكون والقوى الروحية، ومن التعامل مع قدر الله في النهاية.. من هذا كله يتكون تاريخه.. وفي ضوء هذا التعقيد الشديد يفسر تاريخه. والذين يفسرون التاريخ الإنساني تفسيراً «اقتصادياً» أو «سياسياً». والذين يفسرونه تفسيراً «بيولوجياً». والذين يفسرونه تفسيراً «روحياً» أو «نفسياً». والذين يفسرونه تفسيراً «عقلياً»... كل أولئك ينظرون نظرة ساذجة إلى جانب واحد من جوانب العوامل المتشابكة، والعوالم المتباعدة، التي يتعامل معها الإنسان؛ ويتألف من تعامله معها تاريخه.. والتفسير الإسلامي للتاريخ هو وحده الذي يلم بهذا الخضم الواسع، ويحيط به؛ وينظر إلى التاريخ الإنساني من خلاله. ونحن هنا أمام مشاهد صادقة من هذا الخضم.. لقد شهدنا مشهد النشأة البشرية؛ وقد تجمعت في المشهد كل العوالم والآفاق والعناصر- الظاهرة والخفية- التي يتعامل معها هذا الكائن منذ اللحظة الأولى. . ولقد شهدنا هذا الكائن باستعداداته الأساسية.. شهدنا تكريمه في الملأ الأعلى وإسجاد الملائكة له؛ والبارئ العظيم يعلن ميلاده.. وشهدنا ضعفه بعد ذلك وكيف قاده منه عدوه.. وشهدنا مهبطه إلى الأرض.. وانطلاقه في التعامل مع عناصرها ونواميسها الكونية.. ولقد شهدناه يهبط إلى هذه الأرض مؤمناً بربه؛ مستغفراً لذنبه؛ مأخوذاً عليه عهد الخلافة: أن يتبع ما يأتيه من ربه ولا يتبع الشيطان ولا الهوى، مزوداً بتلك التجربة الأولى في حياته.. ثم مضى به الزمن؛ وتقاذفته الأمواج في الخضم؛ وتفاعلت تلك العوامل المعقدة المتشابكة في كيانه ذاته وفي الوجود من حوله. تفاعلت في واقعه وفي ضميره. ثم ها نحن أولاء في هذا الدرس نشهد كيف صارت به هذه العوامل المعقدة المتشابكة إلى الجاهلية!!! إنه ينسى.. وقد نسي.. إنه يضعف.. وقد ضعف.. إن الشيطان يغلبه.. وقد غلبه.. ولا بد من الإنقاذ مرة أخرى!!! لقد هبط إلى هذه الأرض مهتدياً تائباً موحداً. ولكن ها نحن أولاء نلتقي به ضالاً مفترياً مشركاً!!! لقد تقاذفته الأمواج في الخضم.. ولكن هنالك معلماً في طريقه.. هنالك الرسالة ترده إلى ربه. فمن رحمة ربه به أن لا يتركه وحده! وها نحن أولاء في هذه السورة نلتقي بموكب الإيمان، يرفع أعلامه رسل الله الكرام: نوح. وهود. وصالح. ولوط. وشعيب. وموسى. ومحمد- صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً.. ونشهد كيف يحاول هذا الرهط الكريم- بتوجيه الله وتعليمه- إنقاذ الركب البشري من الهاوية التي يقوده إليها الشيطان، وأعوانه من شياطين الإنس المستكبرين عن الحق في كل زمان. كما نشهد مواقف الصراع بين الهدى والضلال. وبين الحق والباطل، وبين الرسل الكرام وشياطين الجن والإنس.. ثم نشهد مصارع المكذبين في نهاية كل مرحلة، ونجاة المؤمنين، بعد الإنذار والتذكير.. والقصص في القرآن لا يتبع دائماً ذلك الخط التاريخي. ولكنه في هذه السورة يتبع هذا الخط. ذلك أنه يعرض سير الركب البشري منذ النشأة الأولى، ويعرض موكب الإيمان وهو يحاول هداية هذا الركب واستنقاذه كلما ضل تماماً عن معالم الطريق، وقاده الشيطان كلية إلى المهلكة ليسلمه في نهايتها إلى الجحيم! وفي وقفتنا أمام المشهد الكلي الرائع نلمح جملة معالم نلخصها هنا قبل مواجهة النصوص: * إن البشرية تبدأ طريقها مهتدية مؤمنة موحدة.. ثم تنحرف إلى جاهلية ضالة مشركة- بفعل العوامل المتشابكة المعقدة في تركيب الإنسان ذاته، وفي العوالم والعناصر التي يتعامل معها.. وهنا يأتيها رسول بذات الحقيقة التي كانت عليها قبل أن تضل وتشرك. فيهلك من يهلك، ويحيا من يحيا. والذين يحيون هم الذين آبوا إلى الحقيقة الإيمانية الواحدة. هم الذين علموا أن لهم إلهاً واحداً. واستسلموا بكليتهم إلى هذا الإله الواحد. هم الذين سمعوا قول رسولهم لهم: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}. . فهي حقيقة واحدة يقوم عليها دين الله كله، ويتعاقب بها الرسل جميعاً على مدار التاريخ.. فكل رسول يجيء إنما يقول هذه الكلمة لقومه الذين اجتالهم الشيطان عنها، فنسوها وضلوا عنها، وأشركوا مع الله آلهة أخرى- على اختلاف هذه الآلهة في الجاهليات المختلفة- وعلى أساسها تدور المعركة بين الحق والباطل.. وعلى أساسها يأخذ الله المكذبين بها وينجي المؤمنين.. والسياق القرآني يوحد الألفاظ التي عبر بها جميع الرسل- صلوات الله عليهم- مع اختلاف لغاتهم.. يوحد حكاية ما قالوه، ويوحد ترجمته في نص واحد: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}.. وذلك لتحقيق معنى وحدة العقيدة السماوية- على مدار التاريخ- حتى في صورتها اللفظية! لأن هذه العبارة دقيقة في التعبير عن حقيقة العقيدة، ولأن عرضها في السياق بذاتها يصور وحدة العقيدة تصويراً حسياً.. ولهذا كله دلالته في تقرير المنهج القرآني عن تاريخ العقيدة.. وفي ضوء هذا التقرير يتبين مدى مفارقة منهج «الأديان المقارنة» مع المنهج القرآني.. يتبين أنه لم يكن هناك تدرج ولا «تطور» في مفهوم العقيدة الأساسي، الذي جاءت به الرسل كلها من عند الله، وأن الذين يتحدثون عن «تطور» المعتقدات وتدرجها؛ ويدمجون العقيدة الربانية في هذا التدرج «والتطور» يقولون غير ما يقوله الله سبحانه! فهذه العقيدة- كما نرى في القرآن الكريم- جاءت دائماً بحقيقة واحدة. وحكيت العبارة عنها في ألفاظ بعينها: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} وهذا الإله الذي دعا الرسل كلهم إليه هو «رب العالمين».. الذي يحاسب الناس في يوم عظيم.. فلم يكن هنالك رسول من عند الله دعا إلى رب قبيلة، أو رب أمة، أو رب جنس.. كما أنه لم يكن هناك رسول من عند الله دعا إلى إلهين اثنين أو آلهة متعددة.. وكذلك لم يكن هناك رسول من عند الله دعا إلى عبادة طوطمية، أو نجمية، أو «أرواحية!» أو صنمية! ولم يكن هناك دين من عند الله ليس فيه عالم آخر.. كما يزعم من يسمونهم «علماء الأديان» وهم يستعرضون الجاهليات المختلفة، ثم يزعمون أن معقتداتها كانت هي الديانات التي عرفتها البشرية في هذه الأزمان، دون غيرها! لقد جاءت الرسل- رسولاً بعد رسول- بالتوحيد الخالص، وبربوبية رب العالمين! وبالحساب في يوم الدين.. ولكن الانحرافات في خط الاعتقاد، مع الجاهليات الطارئة بعد كل رسالة، بفعل العوامل المعقدة المتشابكة في تكوين الإنسان ذاته وفي العوالم التي يتعامل معها.. هذه الانحرافات تمثلت في صور شتى من المعتقدات الجاهلية.. هي هذه التي يدرسها «علماء الأديان!» ثم يزعمون أنها الخط الصاعد في تدرج الديانات وتطورها! وعلى أية حال فهذا هو قول الله- سبحانه- وهو أحق أن يتبع، وبخاصة ممن يكتبون عن هذا الموضوع في صدد عرض العقيدة الإسلامية، أو صدد الدفاع عنها! أما الذين لا يؤمنون بهذا القرآن، فهم وما هم فيه. والله يقص الحق وهو خير الفاصلين.. * إن كل رسول من الرسل- صلوات الله عليهم جميعاً- قد جاء إلى قومه، بعد انحرافهم عن التوحيد الذي تركهم عليه رسولهم الذي سبقه.. فبنو آدم الأوائل نشأوا موحدين لرب العالمين- كما كانت عقيدة آدم وزوجه- ثم انحرفوا بفعل العوامل التي أسلفنا- حتى إذا جاء نوح- عليه السلام- دعاهم إلى توحيد رب العالمين مرة أخرى. ثم جاء الطوفان فهلك المكذبون ونجا المؤمنون. وعمرت الأرض بهؤلاء الموحدين لرب العالمين- كما علمهم نوح- وبذراريهم. حتى إذا طال عليهم الأمد انحرفوا إلى الجاهلية كما انحرف من كان قبلهم.. حتى إذا جاء هود أهلك المكذبون بالريح العقيم.. ثم تكررت القصة.. وهكذا.. ولقد أرسل كل رسول من هؤلاء إلى قومه. فقال: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}.. وقال كل رسول لقومه: {إني لكم ناصح أمين}، معبراًعن ثقل التبعة؛ وخطورة ما يعلمه من عاقبة ما هم فيه من الجاهلية في الدنيا والآخرة؛ ورغبته في هداية قومه، وهو منهم وهم منه.. وفي كل مرة وقف «الملأ» من علية القوم وكبرائهم في وجه كلمة الحق هذه؛ ورفضوا الاستسلام لله رب العالمين. وأبوا أن تكون العبودية والدينونة لله وحده- وهي القضية التي قامت عليها الرسالات كلها وقام عليها دين الله كله- وهنا يصدع كل رسول بالحق في وجه الطاغوت.. ثم ينقسم قومه إلى أمتين متفاصلتين على أساس العقيدة. وتنبتُّ وشيجة القومية ووشيجة القرابة العائلية؛ لتقوم وشيجة العقيدة وحدها. وإذا «القوم» الواحد، أمتان متفاصلتان لا قربى بينهما ولا علاقة!.. وعندئذ يجيء الفتح.. ويفصل الله بين الأمة المهتدية والأمة الضالة، ويأخذ المكذبين المستكبرين، وينجي الطائعين المستسلمين.. وما جرت سنة الله قط بفتح ولا فصل قبل أن ينقسم القوم الواحد إلى أمتين على أساس العقيدة، وقبل أن يجهر أصحاب العقيدة بعبوديتهم لله وحده. وقبل أن يثبتوا في وجه الطاغوت بإيمانهم. وقبل أن يعلنوا مفاصلتهم لقومهم.. وهذا ما يشهد به تاريخ دعوة الله على مدار التاريخ. * إن التركيز في كل رسالة كان على أمر واحد: هو تعبيد الناس كلهم لربهم وحده- رب العالمين- ذلك أن هذه العبودية لله الواحد، ونزع السلطان كله من الطواغيت التي تدعيه، هو القاعدة التي لا يقوم شيء صالح بدونها في حياة البشر. ولم يذكر القرآن إلا قليلاً من التفصيلات بعد هذه القاعدة الأساسية المشتركة في الرسالات جميعاً. ذلك أن كل تفصيل- بعد قاعدة العقيدة- في الدين، إنما يرجع إلى هذه القاعدة ولا يخرج عنها. وأهمية هذه القاعدة في ميزان الله هي التي جعلت المنهج القرآني يبرزها هكذا، ويفردها بالذكر في استعراض موكب الإيمان؛ بل في القرآن كله.. ولنذكر- كما قلنا في التعريف بسورة الأنعام أن هذا كان هو موضوع القرآن المكي كله؛ كما كان هو موضوع القرآن المدني كلما عرضت مناسبة لتشريع أو توجيه. إن لهذا الدين «حقيقة»؛ و«منهجاً» لعرض هذه الحقيقة. «والمنهج» في هذا الدين لا يقل أصالة ولا ضرورة عن «الحقيقة» فيه.. وعلينا أن نعرف الحقيقة الأساسية التي جاء بها هذا الدين. كما أن علينا أن نلتزم المنهج الذي عرض به هذه الحقيقة.. وفي هذا المنهج إبراز وإفراد وتكرار وتوكيد لحقيقة التوحيد للألوهية.. ومن هنا ذلك التوكيد والتكرار والإبراز والإفراد لهذه القاعدة في قصص هذه السورة.. * إن هذا القصص يصور طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر في نفوس البشر؛ ويعرض نموذجاً مكرراً للقلوب المستعدة للإيمان، ونموذجاً مكرراً للقلوب المستعدة للكفر أيضاً.. إن الذين آمنوا بكل رسول لم يكن في قلوبهم الاستكبارعن الاستسلام لله والطاعة لرسوله؛ ولم يعجبوا أن يختار الله واحداً منهم ليبلغهم وينذرهم. فأما الذين كفروا بكل رسول فقد كانوا هم الذين أخذتهم العزة بالإثم، فاستبكروا أن ينزلوا عن السلطان المغتصب في أيديهم لله صاحب الخلق والأمر، وأن يسمعوا لواحد منهم.. كانوا هم «الملأ» من الحكام والكبار والوجهاء وذوي السلطان في قومهم.. ومن هنا نعرف عقدة هذا الدين.. إنها عقدة الحاكمية والسلطان.. فالملأ كانوا يحسون دائماً ما في قول رسولهم لهم: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}.. {ولكني رسول من رب العالمين}.. كانوا يحسون أن الألوهية الواحدة والربوبية الشاملة تعني- أول ما تعني- نزع السلطان المغتصب من أيديهم؛ ورده إلى صاحبه الشرعي.. إلى الله رب العالمين.. وهذا ما كانوا يقاومون في سبيله حتى يكونوا من الهالكين! وقد بلغ من عقدة السلطان في نفوسهم ألا ينتفع اللاحق منهم بالغابر، وأن يسلك طريقه إلى الهلاك، كما يسلك طريقه إلى جهنم كذلك!.. إن مصارع المكذبين- كما يعرضها هذا القصص- تجري على سنة لا تتبدل: نسيان لآيات الله وانحراف عن طريقه. إنذار من الله للغافلين على يد رسول. استكبار عن العبودية لله وحده والخضوع لرب العالمين. اغترار بالرخاء واستهزاء بالإنذار واستعجال للعذاب. طغيان وتهديد وإيذاء للمؤمنين. ثبات من المؤمنين ومفاصلة على العقيدة.. ثم المصرع الذي يأتي وفق سنة الله على مدار التاريخ! * وأخيراً فإن طاغوت الباطل لا يطيق مجرد وجود الحق. . وحتى حين يريد الحق أن يعيش في عزلة عن الباطل- تاركاً مصيرهما لفتح الله وقضائه- فإن الباطل لا يقبل منه هذا الموقف. بل يتابع الحق وينازله ويطارده.. ولقد قال شعيب لقومه: {وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا، فاصبروا حتى يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين}.. ولكنهم لم يقبلوا منه هذه الخطة، ولم يطيقوا رؤية الحق يعيش؛ ولا رؤية جماعة تدين لله وحده وتخرج من سلطان الطواغيت: {قال الملأ الذين استكبروا من قومه: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا}.. وهنا صدع شعيب بالحق رافضاً هذا الذي يعرضه عليهم الطواغيت: {قال: أو لو كنا كارهين؟ قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها..} ذلك ليعلم أصحاب الدعوة إلى الله أن المعركة مع الطواغيت مفروضة عليهم فرضاً، وأنه لا يجديهم فتيلاً أن يتقوها ويتجنبوها. فالطواغيت لن تتركهم إلا أن يتركوا دينهم كلية، ويعودوا إلى ملة الطواغيت بعد إذ نجاهم الله منها. وقد نجاهم الله منها بمجرد أن خلعت قلوبهم عنها العبودية للطواغيت ودانت بالعبودية لله وحده.. فلا مفر من خوض المعركة، والصبر عليها، وانتظار فتح الله بعد المفاصلة فيها؛ وأن يقولوا مع شعيب: {على الله توكلنا. ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين}.. ثم تجري سنة الله بما جرت به كل مرة على مدار التاريخ.. ونكتفي بهذه المعالم في طريق القصص القرآني، حتى نستعرض النصوص بالتفصيل: إن موكب الإيمان الذي يسير في مقدمته رسل الله الكرام، مسبوق في السياق بموكب الإيمان في الكون كله. في الفقرة السابقة مباشرة: {إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش، يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، ألا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين} وإن الدينونة لهذا الإله، الذي خلق السماوات والأرض، والذي استوى على العرش، والذي يحرك الليل ليطلب النهار، والذي تجري الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، والذي له الخلق والأمر. إن الدينونة لهذا الإله وحده هي التي يدعو إليها الرسل كافة. هي التي يدعون إليها البشرية كلها، كلما قعد لها الشيطان على صراط فأضلها عنه؛ وردها إلى الجاهلية التي تتبدى في صور شتى؛ ولكنها كلها تتسم بإشراك غير الله معه في الربوبية. والمنهج القرآني يكثر من الربط بين عبودية هذا الكون لله، ودعوة البشر إلى الاتساق مع الكون الذي يعيشون فيه؛ والإسلام لله الذي أسلم له الكون كله؛ والذي يتحرك مسخراً بأمره. ذلك أن هذا الإيقاع بهذه الحقيقة الكونية كفيل بأن يهز القلب البشري هزاً؛ وأن يستحثه من داخله على أن ينخرط في سلك العبادة المستسلمة؛ فلا يكون هو وحده نشازاً في نظام الوجود كله! إن الرسل الكرام لا يدعون البشرية لأمر شاذ؛ إنما يدعونها إلى الأصل الذي يقوم عليه الوجود كله؛ وإلى الحقيقة المركوزة في ضمير هذا الوجود. . وهي ذاتها الحقيقة المركوزة في فطرة البشر؛ والتي تهتف بها فطرتهم حين لا تلوي بها الشهوات، ولا يقودها الشيطان بعيداً عن حقيقتها الأصيلة.. وهذه هي اللسمة المستفادة من تتابع السياق القرآني في السورة على النحو الذي تتابع به. {لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه، فقال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم. قال الملأ من قومه: إنا لنراك في ضلال مبين. قال: يا قوم ليس بي ضلالة، ولكني رسول من رب العالمين. أبلغكم رسالات رب، وأنصح لكم، وأعلم من الله ما لا تعلمون. أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم، ولتتقوا، ولعلكم ترحمون؟ فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك، وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا، إنهم كانوا قوماً عمين}.. تعرض القصة هنا باختصار، ليست فيها التفصيلات التي ترد في مواضع أخرى من القرآن في سياق يتطلب تلك التفصيلات، كالذي جاء في سورة هود، وفي سورة نوح.. إن الهدف هنا هو تصوير: تلك المعالم التي تحدثنا عنها آنفاً.. طبيعة العقيدة. طريقة التبليغ. طبيعة استقبال القوم لها. حقيقة مشاعر الرسول. تحقق النذير.. لذلك تذكر من القصة فحسب تلك الحلقات المحققة لتلك المعالم، على منهج القصص القرآني. {لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه}.. على سنة الله في إرسال كل رسول من قومه، وبلسانهم، تأليفاً لقلوب الذين لم تفسد فطرتهم، وتيسيراً على البشر في التفاهم والتعارف. وإن كان الذين فسدت فطرتهم يعجبون من هذه السنة، ولا يستجيبون، ويستكبرون أن يؤمنوا لبشر مثلهم، ويطلبون أن تبلغهم الملائكة! وإن هي إلا تعلة. وما كانوا ليستجيبوا إلى الهدى، مهما جاءهم من أي طريق! لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه، فخاطبهم بتلك الكلمة الواحدة التي جاء بها كل رسول: {فقال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}. فهي الكلمة التي لا تتبدل، وهي قاعدة هذه العقيدة التي لا توجد إلا بها، وهي عماد الحياة الإنسانية الذي لا تقوم على غيره، وهي ضمان وحدة الوجهة ووحدة الهدف، ووحدة الرباط. وهي الكفيل بتحرر البشر من العبودية للهوى، والعبودية لأمثالهم من العبيد، وبالاستعلاء على الشهوات كلها وعلى الوعد والوعيد. إن دين الله منهج للحياة، قاعدته أن يكون السلطان كله في حياة الناس كلها لله. وهذا هو معنى عبادة الله وحده، ومعنى ألا يكون للناس إله غيره.. والسلطان يتمثل في الاعتقاد بربوبيته لهذا الوجود وإنشائه وتدبيره بقدرة الله وقدره. كما يتمثل في الاعتقاد بربوبيته للإنسان وإنشائه وتدبير أمره بقدرة الله وقدره. وعلى نفس المستوى يتمثل في الاعتقاد بربوبية الله لهذا الإنسان في حياته العملية الواقعية، وقيامها على شريعته وأمره، تمثله في التقدم بشعائر العبادة له وحده.. كلها حزمة واحدة.. غير قابلة للتجزئة. وإلا فهو الشرك، وهو عبادة غير الله معه، أو من دونه! ولقد قال نوح لقومه هذه القولة الواحدة، وأنذرهم عاقبة التكذيب بها في إشفاق الأخ الناصح لإخوانه، وفي صدق الرائد الناصح لأهله: {إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم}.. وهنا نرى أن ديانة نوح.. أقدم الديانات.. كانت فيها عقيدة الآخرة. عقيدة الحساب والجزاء في يوم عظيم، يخاف نوح على قومه ما ينتظرهم فيه من عذاب.. وهكذا تتبين مفارقة منهج الله وتقريره في شأن العقيدة، ومناهج الخابطين في الظلام من «علماء الأديان» وأتباعهم الغافلين عن منهج القرآن. فكيف كان استقبال المنحرفين الضالين من قوم نوح لهذه الدعوة الخالصة الواضحة المستقيمة؟ {قال الملأ من قومه: إنا لنراك في ضلال مبين} ! كما قال مشركو العرب لمحمد- صلى الله عليه وسلم- إنه صبأ، ورجع عن دين إبراهيم! وهكذا يبلغ الضال من الضلال أن يحسب من يدعوه إلى الهدى هو الضال! بل هكذا يبلغ التبجح الوقح بعدما يبلغ المسخ في الفطر!.. هكذا تنقلب الموازين، وتبطل الضوابط، ويحكم الهوى؛ ما دام أن الميزان ليس هو ميزان الله الذي لا ينحرف ولا يميل. وماذا تقول الجاهلية اليوم عن المهتدين بهدى الله؟ إنها تسميهم الضالين، وتعد من يهتدي منهم ويرجع بالرضى والقبول!.. أجل من يهتدي إلى المستنقع الكريه، وإلى الوحل الذي تتمرغ الجاهلية فيه! وماذا تقول الجاهلية اليوم للفتاة التي لا تكشف عن لحمها؟ وماذا تقول للفتى الذي يستقذر اللحم الرخيص؟ إنها تسمي ترفعهما هذا ونظافتهما وتطهرهما «رجعية» وتخلفاً وجموداً وريفية! وتحاول الجاهلية بكل ما تملكه من وسائل التوجيه والإعلام أن تغرق ترفعهما ونظافتهما في الوحل الذي تتمرغ فيه في المستنقع الكريه! وماذا تقول الجاهلية لمن ترتفع اهتماماته عن جنون مباريات الكرة؛ وجنون الأفلام والسينما والتليفزيون وما إليه؛ وجنون الرقص والحفلات الفارغة والملاهي؟ إنها تقول عنه: إنه «جامد». ومغلق على نفسه، وتنقصه المرونة والثقافة! وتحاول أن تجره إلى تفاهة من هذه ينفق فيها حياته.. إن الجاهلية هي الجاهلية.. فلا تتغير إلا الأشكال والظروف! وينفي نوح عن نفسه الضلال، ويكشف لهم عن حقيقة دعوته ومنبعها، فهو لم يبتدعها من أوهامه وأهوائه. إنما هو رسول من رب العالمين. يحمل لهم الرسالة. ومعها النصح والأمانة. ويعلم من الله ما لا يعلمون. فهو يجده في نفسه، وهو موصول به، وهم عنه محجوبون: {قال: يا قوم ليس بي ضلالة، ولكني رسول من رب العالمين. أبلغكم رسالات ربي، وأنصح لكم، وأعلم من الله ما لا تعلمون}. ونلمح هنا فجوة في السياق.. فكأنما عجبوا أن يختار الله رسولاً من البشر من بينهم، يحمله رسالة إلى قومه، وأن يجد هذا الرسول في نفسه علماً عن ربه لا يجده الآخرون، الذين لم يختاروا هذا الاختيار.. هذه الفجوة في السياق يدل عليها ما بعدها: {أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم، ولتتقوا، ولعلكم ترحمون؟}.. وما من عجب في هذا الاختيار. فهذا الكائن الإنساني شأنه كله عجيب.. إنه يتعامل مع العوالم كلها، ويتصل بربه بما ركب في طبيعته من نفخة الله فيه من روحه.. فإذا اختار الله من بينه رسوله- والله أعلم حيث يجعل رسالته- فإنما يتلقى هذا المختار عنه، بما أودع في كيانه من إمكانية الاتصال به والتلقي عنه، بذلك السر اللطيف الذي به معنى الإنسان، والذي هو مناط التكريم العلوي لهذا الكائن العجيب التكوين. ويكشف لهم نوح عن هدف الرسالة: {لينذركم، ولتتقوا، ولعلكم ترحمون}.. فهو الإنذار لتحريك القلوب بمشاعر التقوى، ليظفروا في النهاية برحمة الله.. ولا شيء وراء ذلك لنوح، ولا مصلحة، ولا هدف، إلا هذا الهدف السامي النبيل. ولكن الفطرة حين تبلغ حداً معيناً من الفساد، لا تتفكر ولا تتدبر ولا تتذكر، ولا ينفع معها الإنذار ولا التذكير: {فكذبوه، فأنجيناه والذين معه في الفلك، وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا، إنهم كانوا قوماً عمين}.. ولقد رأينا من عماهم عن الهدى والنصح المخلص والنذير.. فبعماهم هذا كذبوا.. وبعماهم لاقوا هذا المصير! وتمضي عجلة التاريخ، ويمضي معها السياق، فإذا نحن أمام عاد قوم هود: «وإلى عاد أخاهم هودا، قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، أفلا تتقون؟ قال الملأ الذين كفروا من قومه: إنا لنراك في سفاهة، وإنا لنظنك من الكاذبين. قال: يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين. أبلغكم رسالات ربي، وأنا لكم ناصح أمين. أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم؟ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح، وزادكم في الخلق بسطة، فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون. قالوا: أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا؟ فأتنا بما تعدنا إنا كنت من الصادقين. قال: قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب، أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان؟ فانتظروا، إني معكم من المنتظرين. فأنجيناه والذين معه برحمة منا، وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا، وما كانوا مؤمنين}. إنها نفس الرسالة، ونفس الحوار، ونفس العاقبة.. إنها السنة الماضية، والناموس الجاري، والقانون الواحد.. إن قوم عاد هؤلاء من ذراري نوح والذين نجوا معه في السفينة، وقيل: كان عددهم ثلاثة عشر.. وما من شك أن أبناء هؤلاء المؤمنين الناجين في السفينة كانوا على دين نوح عليه السلام- وهو الإسلام- كانوا يعبدون الله وحده، ما لهم من إله غيره، وكانوا يعتقدون أنه رب العالمين، فهكذا قال لهم نوح: {ولكني رسول من رب العالمين}. . فلما طال عليهم الأمد، وتفرقوا في الأرض، ولعب معهم الشيطان لعبة الغواية، وقادهم من شهواتهم- وفي أولها شهوة الملك وشهوات المتاع، وفق الهوى لا وفق شريعة الله، عاد قوم هود يستنكرون أن يدعوهم نبيهم إلى عبادة الله وحده من جديد: {وإلى عاد أخاهم هودا، قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، أفلا تتقون؟}.. القولة التي قالها نوح من قبله، والتي كذب بها قومه، فأصابهم ما أصابهم، واستخلف الله عادا من بعدهم- ولا يذكر هنا أين كان موطنهم، وفي سورة أخرى نعلم أنهم كانوا بالأحقاف، وهي الكثبان المرتفعة على حدود اليمن ما بين اليمامة وحضرموت- وقد ساروا في الطريق الذي سار فيه من قبل قوم نوح، فلم يتذكروا ولم يتدبروا ما حل بمن ساروا في هذا الطريق، لذلك يضيف هود في خطابه لهم قوله: {أفلا تتقون؟} استنكاراً لقلة خوفهم من الله ومن ذلك المصير المرهوب. وكأنما كبر على الملأ الكبراء من قومه أن يدعوهم واحد من قومهم إلى الهدى، وأن يستنكر منهم قلة التقوى؛ ورأوا فيه سفاهة وحماقة، وتجاوزا للحد، وسوء تقدير للمقام! فانطلقوا يتهمون نبيهم بالسفاهة وبالكذب جميعاً في غير تحرج ولا حياء: {قال الملأ الذين كفروا من قومه: إنا لنراك في سفاهة، وإنا لنظنك من الكاذبين}.. هكذا جزافاً بلا تروّ ولا تدبر ولا دليل! {قال: يا قوم ليس بي سفاهة، ولكني رسول من رب العالمين. أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين}.. لقد نفى عن نفسه السفاهة في بساطة وصدق- كما نفى عن نفسه الضلالة- وقد كشف لهم- كما كشف نوح من قبل- عن مصدر رسالته وهدفها؛ وعن نصحه لهم فيها وأمانته في تبليغها. وقال لهم ذلك كله في مودة الناصح وفي صدق الأمين. ولا بد أن يكون القوم قد عجبوا- كما عجب قوم نوح من قبل- من هذا الاختيار، ومن تلك الرسالة، فإذا هود يكرر لهم ما قاله نوح من قبل، كأنما كلاهما روح واحدة في شخصين: {أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم؟}.. ثم يزيد عليه ما يمليه واقعهم.. واقع استخلافهم في الأرض من بعد قوم نوح، وإعطائهم قوة في الأجسام وضخامة بحكم نشأتهم الجبلية، وإعطائهم كذلك السلطان والسيطرة: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح، وزادكم في الخلق بسطة. فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون}.. فلقد كان من حق هذا الاستخلاف، وهذه القوة والبسطة، أن تستوجب شكر النعمة، والحذر من البطر، واتقاء مصير الغابرين. وهم لم يأخذوا على الله عهداً: أن تتوقف سنته التي لا تتبدل، والتي تجري وفق الناموس المرسوم، بقدر معلوم. وذكر النعم يوحي بشكرها؛ وشكر النعمة تتبعه المحافظة على أسبابها؛ ومن ثم يكون الفلاح في الدنيا والآخرة. ولكن الفطرة حين تنحرف لا تتفكر ولا تتدبر ولا تتذكر.. وهكذا أخذت الملأ العزة بالإثم، واختصروا الجدل، واستعجلوا العذاب استعجال من يستثقل النصح، ويهزأ بالإنذار: {قالوا: أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا؟ فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين}.. لكأنما كان يدعوهم إلى أمر منكر لا يطيقون الاستماع إليه، ولا يصبرون على النظر فيه: {أجئتنا لنعبد الله وحده، ونذر ما كان يعبد آباؤنا؟}؛ إنه مشهد بائس لاستعباد الواقع المألوف للقلوب والعقول. هذا الاستعباد الذي يسلب الإنسان خصائص الإنسان الأصيلة: حرية التدبر والنظر، وحرية التفكير والاعتقاد. ويدعه عبداً للعادة والتقليد، وعبداً للعرف والمألوف، وعبداً لما تفرضه عليه أهواؤه وأهواء العبيد من أمثاله، ويغلق عليه كل باب للمعرفة وكل نافذة للنور.. وهكذا استعجل القوم العذاب فراراً من مواجهة الحق، بل فراراً من تدبر تفاهة الباطل الذي هم له عبيد؛ وقالوا لنبيهم الناصح الأمين: {فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين} ! ومن ثم كان الجواب حاسماً وسريعاً في رد الرسول: {قال: قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب. أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان؟ فانتظروا، إني معكم من المنتظرين}. لقد أبلغهم العاقبة التي أنبأه بها ربه، والتي قد حقت عليهم فلم يعد عنها محيص.. إنه العذاب الذي لا دافع له، وغضب الله المصاحب له.. ثم جعل بعد هذا التعجيل لهم بالعذاب الذي استعجلوه؛ يكشف لهم عن سخافة معتقداتهم وتصوراتهم: {أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم ما نزل الله بها من سلطان؟}.. إن ما تعبدون مع الله ليس شيئاً ذا حقيقة! إنها مجرد أسماء أطلقتموها أنتم وآباؤكم؛ من عند أنفسكم، لم يشرعها الله ولم يأذن بها، فما لها إذن من سلطان ولا لكم عليها من برهان. والتعبير المتكرر في القرآن: {ما نزل الله بها من سلطان}.. هو تعبير موح عن حقيقة أصيلة.. إن كل كلمة أو شرع أو عرف أو تصور لم ينزله الله، خفيف الوزن، قليل الأثر، سريع الزوال.. إن الفطرة تتلقى هذا كله في استخفاف، فإذا جاءت الكلمة من الله ثقلت واستقرت ونفذت إلى الأعماق، بما فيها من سلطان الله الذي يودعها إياه. وكم من كلمات براقة، وكم من مذاهب ونظريات، وكم من تصورات مزوقة، وكم من أوضاع حشدت لها كل قوى التزيين والتمكين.. ولكنها تتذاوب أمام كلمة من الله، فيها من سلطانه- سبحانه- سلطان! وفي ثقة المطمئن، وقوة المتمكن، يواجه هود قومه بالتحدي: {فانتظروا، إني معكم من المنتظرين}. إن هذه الثقة هي مناط القوة التي يستشعرها صاحب الدعوة إلى الله.. إنه على يقين من هزال الباطل وضعفه وخفة وزنه مهما انتفش ومهما استطال. كما أنه على يقين من سلطان الحق الذي معه وقوته بما فيه من سلطان الله. ولا يطول الانتظار في السياق: {فأنجيناه والذين معه برحمة منا، وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا، وما كانوا مؤمنين}.. فهو المحق الكامل الذي لا يتخلف منه أحد. وهو ما عبر عنه بقطع الدابر. والدابر هو آخر واحد في الركب يتبع أدبار القوم! وهكذا طويت صفحة أخرى من صحائف المكذبين. وتحقق النذير مرة أخرى بعد إذ لم ينفع التذكير.. ولا يفصل السياق هنا ما يفصله من أمر هذا الهلاك في السور الأخرى. فنقف نحن في ظلال النص الذي يهدف إلى الاستعراض السريع؛ ولا نخوض في تفصيل له مواضعه في النصوص. {وإلى ثمود أخاهم صالحاً، قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره. قد جاءتكم بينة من ربكم، هذه ناقة الله لكم آية، فذروها تأكل في أرض الله، ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم. واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد، وبوأكم في الأرض، تتخذون من سهولها قصوراً، وتنحتون الجبال بيوتاً، فاذكروا آلاء الله، ولا تعثوا في الأرض مفسدين. قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا- لمن آمن منهم-: أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه؟ قالوا: إنا بما أرسل به مؤمنون، قال الذين استكبروا: إنا بالذي آمنتم به كافرون. فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم، وقالوا: يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين. فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين. فتولى عنهم وقال: يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم، ولكن لا تحبون الناصحين}.. وهذه صفحة أخرى من صحائف قصة البشرية؛ وهي تمضي في خضم التاريخ، وها هي ذي نكسة أخرى إلى الجاهلية؛ ومشهد من مشاهد اللقاء بين الحق والباطل، ومصرع جديد من مصارع المكذبين.. {وإلى ثمود أخاهم صالحاً. قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}.. ذات الكلمة الواحدة التي بها بدأ هذا الخلق وإليها يعود، وذات المنهج الواحد في الاعتقاد والاتجاه والمواجهة والتبليغ.. ويزيد هنا تلك المعجزة التي صاحبت دعوة صالح، حين طلبها قومه للتصديق: {قد جاءتكم بيِّنة من ربكم، هذه ناقة الله لكم آية}.. والسياق هنا، لأنه يستهدف الاستعراض السريع للدعوة الواحدة، ولعاقبة الإيمان بها وعاقبة التكذيب، لا يذكر تفصيل طلبهم للخارقة، بل يعلن وجودها عقب الدعوة. وكذلك لا يذكر تفصيلاً عن الناقة أكثر من أنها بيِّنة من ربهم، وأنها ناقة الله وفيها آية منه. ومن هذا الإسناد نستلهم أنها كانت ناقة غير عادية، أو أنها أخرجت لهم إخراجاً غير عادي. مما يجعلها بينة من ربهم، ومما يجعل نسبتها إلى الله ذات معنى، ويجعلها آية على صدق نبوته.. ولا نزيد على هذا شيئاً مما لم يرد ذكره من أمرها في هذا المصدر المستيقن- وفيما جاء في هذه الإشارة كفاية عن كل تفصيل آخر- فنمضي نحن مع النصوص ونعيش في ظلالها: {فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم}.. إنها ناقة الله، فذروها تأكل في أرض الله، وإلا فهو النذير بسوء المصير.. وبعد عرض الآية والإنذار بالعاقبة، يأخذ صالح في النصح لقومه بالتدبر والتذكر، والنظر في مصائر الغابرين، والشكر على نعمة الاستخلاف بعد هؤلاء الغابرين: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد، وبوأكم في الأرض، تتخذون من سهولها قصوراً، وتنحتون الجبال بيوتاً. فاذكروا آلاء الله، ولا تعثوا في الأرض مفسدين}. ولا يذكر السياق هنا أين كان موطن ثمود، ولكنه يذكر في سورة أخرى أنهم كانوا في الحجر- وهي بين الحجاز والشام.. ونلمح من تذكير صالح لهم، أثر النعمة والتمكين في الأرض لثمود، كما نلمح طبيعة المكان الذي كانوا يعيشون فيه. فهو سهل وجبل، وقد كانوا يتخذون في السهل القصور، وينحتون في الجبال البيوت. فهي حضارة عمرانية واضحة المعالم في هذا النص القصير.. وصالح يذكرهم استخلاف الله لهم من بعد عاد، وإن لم يكونوا في أرضهم ذاتها، ولكن يبدو أنهم كانوا أصحاب الحضارة العمرانية التالية في التاريخ لحضارة عاد، وأن سلطانهم امتد خارج الحجر أيضاً. وبذلك صاروا خلفاء ممكنين في الأرض، محكمين فيها. وهو ينهاهم عن الانطلاق في الأرض بالفساد، اغتراراً بالقوة والتمكين، وأمامهم العبرة ماثلة في عاد الغابرين! وهنا كذلك نلمح فجوة في السياق على سبيل الإيجاز والاختصار. فقد آمنت طائفة من قوم صالح، واستكبرت طائفة. والملأ هم آخر من يؤمن بدعوة تجردهم من السلطان في الأرض، وترده إلى إله واحد هو رب العالمين! ولا بد أن يحاولوا فتنة المؤمنين الذين خلعوا ربقة الطاغوت من أعناقهم بعبوديتهم لله وحده، وتحرروا بذلك من العبودية للعبيد! وهكذا نرى الملأ المستكبرين من قوم صالح يتجهون إلى من آمن من الضعفاء بالفتنة والتهديد: {قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا- لمن آمن منهم-: أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه؟}.. وواضح أنه سؤال للتهديد والتخويف، ولاستنكار إيمانهم به، وللسخرية من تصديقهم له في دعواه الرسالة من ربه. ولكن الضعاف لم يعودوا ضعافاً! لقد سكب الإيمان بالله القوة في قلوبهم، والثقة في نفوسهم، والاطمئنان في منطقهم.. إنهم على يقين من أمرهم، فماذا يجدي التهديد والتخويف؟ وماذا تجدي السخرية والاستنكار.. من الملأ المستكبرين؟: {قالوا: إنا بما أرسل به مؤمنون}. ومن ثم يعلن الملأ عن موقفهم في صراحة تحمل طابع التهديد: {إنا بالذي آمنتم به كافرون}.. على الرغم من البينة التي جاءهم بها صالح. والتي لا تدع ريبة لمستريب.. إنه ليست البينة هي التي تنقص الملأ للتصديق.. إنه السلطان المهدد بالدينونة للرب الواحد.. إنها عقدة الحاكمية والسلطان، إنها شهوة الملك العميقة في الإنسان! إنه الشيطان الذي يقود الضالين من هذا الخطام! وأتبعوا القول بالعمل، فاعتدوا على ناقة الله التي جاءتهم آية من عنده على صدق نبيه في دعواه؛ والتي حذرهم نبيهم أن يمسوها بسوء فيأخذهم عذاب أليم: {فعقروا الناقة، وعتوا عن أمر ربهم؛ وقالوا: يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين}.. إنه التبجح الذي يصاحب المعصية. ويعبر عن عصيانهم بقوله: {عتوا} لإبراز سمة التبجح فيها، وليصور الشعور النفسي المصاحب لها. والذي يعبر عنه كذلك ذلك التحدي باستعجال العذاب والاستهتار بالنذير: ولا يستأني السياق في إعلان الخاتمة، ولا يفصل كذلك: {فأخذتهم الرجفة، فأصبحوا في دارهم جاثمين}.. والرجفة والجثوم، جزاء مقابل للعتو والتبجح. فالرجفة يصاحبها الفزع، والجثوم مشهد للعجز عن الحراك. وما أجدر العاتي أن يرتجف، وما أجدر المعتدي أن يعجز. جزاء وفاقاً في المصير. وفي التعبير عن هذا المصير بالتصوير. ويدعهم السياق على هيئتهم.. {جاثمين}.. ليرسم لنا مشهد صالح الذي كذبوه وتحدوه: {فتولى عنهم، وقال: يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، ولكن لا تحبون الناصحين}. إنه الإشهاد على أمانة التبليغ والنصح؛ والبراءة من المصير الذي جلبوه لأنفسهم بالعتو والتكذيب. .. وهكذا تطوى صفحة أخرى من صحائف المكذبين. ويحق النذير بعد التذكير على المستهزئين.. وتمضي عجلة التاريخ، فيظلنا عهد إبراهيم- عليه السلام- ولكن السياق لا يتعرض هنا لقصة إبراهيم. ذلك أن السياق يتحرى مصارع المكذبين؛ متناسقاً مع ما جاء في أول السورة: {وكم من قرية أهلكناها، فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون} وهذا القصص إنما هو تفصيل لهذا الإجمال في إهلاك القرى التي كذبت بالنذير.. وقوم إبراهيم لم يهلكوا لأن إبراهيم- عليه السلام- لم يطلب من ربه هلاكهم. بل اعتزلهم وما يدعون من دون الله.. إنما تجيء هنا قصة قوم لوط- ابن أخي إبراهيم- ومعاصره، بما فيها من إنذار وتكذيب وإهلاك. يتمشى مع ظلال السياق، على طريقة القرآن: {ولوطاً إذ قال لقومه: أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين؟ إنكم لتأتون الرجال- شهوة- من دون النساء. بل أنتم قوم مسرفون. وما كان جواب قومه إلا أن قالوا: أخرجوهم من قريتكم، إنهم أناس يتطهرون. فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين. وأمطرنا عليهم مطراً، فانظر كيف كان عاقبة المجرمين}.. وتكشف لنا قصة قوم لوط عن لون خاص من انحراف الفطرة؛ وعن قضية أخرى غير قضية الألوهية والتوحيد التي كانت مدار القصص السابق. ولكنها في الواقع ليست بعيدة عن قضية الألوهية والتوحيد.. إن الاعتقاد في الله الواحد يقود إلى الإسلام لسننه وشرعه. وقد شاءت سنة الله أن يخلق البشر ذكراً وأنثى، وأن يجعلهما شقين للنفس الواحدة تتكامل بهما؛ وأن يتم الامتداد في هذا الجنس عن طريق النسل؛ وأن يكون النسل من التقاء ذكر وأنثى.. ومن ثم ركبهما وفق هذه السنة صالحين للالتقاء، صالحين للنسل عن طريق هذا الالتقاء، مجهزين عضوياً ونفسياً لهذا الالتقاء.. وجعل اللذة التي ينالانها عندئذ عميقة، والرغبة في إتيانها أصيلة، وذلك لضمان أن يتلاقيا فيحققا مشيئة الله في امتداد الحياة؛ ثم لتكون هذه الرغبة الأصيلة وتلك اللذة العميقة دافعاً في مقابل المتاعب التي يلقيانها بعد ذلك في الذرية. من حمل ووضع ورضاعة. ومن نفقة وتربية وكفالة.. ثم لتكون كذلك ضماناً لبقائهما ملتصقين في أسرة، تكفل الأطفال الناشئين، الذين تطول فترة حضانتهم أكثر من أطفال الحيوان، ويحتاجون إلى رعاية أطول من الجيل القديم! هذه هي سنة الله التي يتصل إدراكها والعمل بمقتضاها بالاعتقاد في الله وحكمته ولطف تدبيره وتقديره. ومن ثم يكون الانحراف عنها متصلاً بالانحراف عن العقيدة، وعن منهج الله للحياة. ويبدو انحراف الفطرة واضحاً في قصة قوم لوط، حتى أن لوطا ليجبههم بأنهم بدع دون خلق الله فيها، وأنهم في هذا الانحراف الشنيع غير مسبوقين: {ولوطاً إذ قال لقومه: أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين؟ إنكم لتأتون الرجال- شهوة- من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون}.. والإسراف الذي يدمغهم به لوط هو الإسراف في تجاوز منهج الله الممثل في الفطرة السوية. والإسراف في الطاقة التي وهبهم الله إياها، لأداء دورهم في امتداد البشرية ونمو الحياة، فإذا هم يريقونها ويبعثرونها في غير موضع الإخصاب. فهي مجرد {شهوة} شاذة. لأن الله جعل لذة الفطرة الصادقة في تحقيق سنة الله الطبيعية. فإذا وجدت نفس لذتها في نقيض هذه السنة، فهو الشذوذ إذن والانحراف والفساد الفطري، قبل أن يكون فساد الأخلاق.. ولا فرق في الحقيقة. فالأخلاق الإسلامية هي الأخلاق الفطرية، بلا انحراف ولا فساد. إن التكوين العضوي للأنثى- كالتكوين النفسي- هو الذي يحقق لذة الفطرة الصادقة للذكر في هذا الالتقاء، الذي لا يقصد به مجرد «الشهوة». إنما هذه اللذة المصاحبة له رحمة من الله ونعمة، إذ يجعل القيام بتحقيق سنته ومشيئته في امتداد الحياة، مصحوباً بلذة تعادل مشقة التكليف! فأما التكوين العضوي للذكر- بالنسبة للذكر- فلا يمكن أن يحقق لذة للفطرة السليمة؛ بل إن شعور الاستقذار ليسبق، فيمنع مجرد الاتجاه عند الفطرة السليمة. وطبيعة التصور الاعتقادي، ونظام الحياة الذي يقوم عليه، ذو أثر حاسم في هذا الشأن.. فهذه هي الجاهلية الحديثة في أوربا وفي أمريكا ينتشر فيها هذا الانحراف الجنسي الشاذ انتشاراً ذريعاً. بغير ما مبرر إلا الانحراف عن الاعتقاد الصحيح، وعن منهج الحياة الذي يقوم عليه. وقد كانت هناك دعوى عريضة من الأجهزة التي يوجهها اليهود في الأرض لتدمير الحياة الإنسانية لغير اليهود، بإشاعة الانحلال العقيدي والأخلاقي.. كانت هناك دعوى عريضة من هذه الأجهزة الموجهة بأن احتجاب المرأة هو الذي ينشر هذه الفاحشة الشاذة في المجتمعات! ولكن شهادة الواقع تخرق العيون. ففي أوربا وأمريكا لم يبق ضابط واحد للاختلاط الجنسي الكامل بين كل ذكر وكل أنثى- كما في عالم البهائم!- وهذه الفاحشة الشاذة يرتفع معدلها بارتفاع الاختلاط ولا ينقص! ولا يقتصر على الشذوذ بين الرجال؛ بل يتعداه إلى الشذوذ بين النساء.. ومن لا تخرق عينيه هذه الشهادة فليقرأ: «السلوك الجنسي عند الرجال» و«السلوك الجنسي عند النساء» في تقرير «كنزي» الأمريكي.. ولكن هذه الأجهزة الموجهة ما تزال تردد هذه الأكذوبة، وتسندها إلى حجاب المرأة. لتؤدي ما تريده بروتوكولات صهيون، ووصايا مؤتمرات المبشرين! ونعود إلى قوم لوط! فيتجلى لنا الانحراف مرة أخرى في جوابهم لنبيهم: {وما كان جواب قومه إلا أن قالوا: أخرجوهم من قريتكم، إنهم أناس يتطهرون} ! يا عجباً! أو من يتطهر يخرج من القرية إخراجاً، ليبقى فيها الملوثون المدنسون؟! ولكن لماذا العجب؟ وماذا تصنع الجاهلية الحديثة؟ أليست تطارد الذين يتطهرون، فلا ينغمسون في الوحل الذي تنغمس فيه مجتمعات الجاهلية- وتسميه تقدمية وتحطيماً للأغلال عن المرأة وغير المرأة- أليست تطاردهم في أرزاقهم وأنفسهم وأموالهم وأفكارهم وتصوراتهم كذلك؛ ولا تطيق أن تراهم يتطهرون؛ لأنها لا تتسع ولا ترحب إلا بالملوثين الدنسين القذرين؟! إنه منطق الجاهلية في كل حين!! وتعرض الخاتمة سريعاً بلا تفصيل ولا تطويل كالذي يجيء في السياقات الأخرى: {فأنجيناه وأهله- إلا امرأته كانت من الغابرين- وأمطرنا عليهم مطراً، فانظر كيف كان عاقبة المجرمين}.. إنها النجاة لمن تهددهم العصاة. كما أنها هي الفصل بين القوم على أساس العقيدة والمنهج. فامرأته- وهي ألصق الناس به- لم تنج من الهلاك. لأن صلتها كانت بالغابرين المهلكين من قومه في المنهج والاعتقاد. وقد أمطروا مطراً مهلكاً مع ما صاحبه من عواصف.. ترى كان هذا المطر المغرق، والماء الدافق، لتطهير الأرض من ذلك الدنس الذي كانوا فيه، والوحل الذي عاشوا وماتوا فيه؟! على أية حال لقد طويت صفحة أخرى من صحائف المكذبين المجرمين! ونأتي للصفحة الأخيرة من صحائف الأقوام المكذبة في تلك الحقبة من التاريخ.. صفحة مدين وأخيهم شعيب: {وإلى مدين أخاهم شعيباً، قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، قد جاءتكم بينة من ربكم، فأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين. ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجاً، واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم، وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين. وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين}.. {قال الملأ الذين استكبروا من قومه: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا. قال: أو لو كنا كارهين؟ قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها، وما يكون لنا أن نعود فيها- إلا أن يشاء الله ربنا، وسع ربنا كل شيء علماً- على الله توكلنا، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق، وأنت خير الفاتحين. وقال الملأ الذين كفروا من قومه: لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون. فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين. الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها، الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين، فتولى عنهم وقال: يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فكيف آسى على قوم كافرين؟}.. إننا نجد شيئاً من الإطالة في هذه القصة، بالقياس إلى نظائرها في هذا الموضع، ذلك أنها تتضمن غير قضية العقيدة شيئاً عن المعاملات، وإن كانت القصة سائرة على منهج الاستعراض الإجمالي في هذا السياق. {وإلى مدين أخاهم شعيباً، قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}. فهي قاعدة الدعوة التي لا تغيير فيها ولا تبديل.. ثم تبدأ بعدها بعض التفصيلات في رسالة النبي الجديد: {قد جاءتكم بينة من ربكم}.. ولا يذكر السياق نوع هذه البينة- كما ذكرها في قصة صالح- ولا نعرف لها تحديداً من مواضع القصة في السور الأخرى. ولكن النص يشير إلى أنه كانت هناك بينة جاءهم بها، تثبت دعواه أنه مرسل من عند الله. ويرتب على هذه البينة ما يأمرهم به نبيهم من توفية الكيل والميزان، والنهي عن الإفساد في الأرض، والكف عن قطع الطريق على الناس، وعن فتنة المؤمنين عن دينهم الذي ارتضوه: {فأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين. ولا تقعدوا بكل صراط توعدون، وتصدون عن سبيل الله من آمن به، وتبغونها عوجاً، واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم، وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين}.. وندرك من هذا النهي أن قوم شعيب، كانوا قوماً مشركين لا يعبدون الله وحده، إنما يشركون معه عباده في سلطانه؛ وأنهم ما كانوا يرجعون في معاملاتهم إلى شرع الله العادل؛ إنما كانوا يتخذون لأنفسهم من عند أنفسهم قواعد للتعامل- ولعل شركهم إنما كان في هذه الخصلة- وأنهم- لذلك- كانوا سيئي المعاملة في البيع والشراء؛ كما كانوا مفسدين في الأرض، يقطعون الطريق على سواهم. ظلمة يفتنون الذين يهتدون ويؤمنون عن دينهم، ويصدونهم عن سبيل الله المستقيم؛ ويكرهون الاستقامة التي في سبيل الله؛ ويريدون أن تكون الطريق عوجاء منحرفة، لا تمضي على استقامتها كما هي في منهج الله. ويبدأ شعيب- عليه السلام- بدعوتهم إلى عبادة الله وحده وإفراده سبحانه بالألوهية، وإلى الدينونة له وحده وإفراده من ثم بالسلطان في أمر الحياة كله. يبدأ شعيب- عليه السلام- في دعوتهم من هذه القاعدة؛ التي يعلم أنه منها تنبثق كل مناهج الحياة وكل أوضاعها؛ كما أن منها تنبثق قواعد السلوك والخلق والتعامل. ولا تستقيم كلها إلا إذا استقامت هذه القاعدة. ويستصحب في دعوتهم إلى الدينونة لله وحده، وإقامة حياتهم على منهجه المستقيم، وترك الإفساد في الأرض بالهوى بعدما أصلحها الله بالشريعة.. يستصحب في دعوتهم إلى هذا كله بعض المؤثرات الموحية.. يذكرهم نعمة الله عليهم: {واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم}. ويخوفهم عاقبة المفسدين من قبلهم: {وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين}.. كذلك يريد منهم أن يأخذوا أنفسهم بشيء من العدل وسعة الصدر؛ فلا يفتنوا المؤمنين الذين هداهم الله إليه عن دينهم، ولا يقعدوا لهم بكل صراط، ولا يأخذوا عليهم كل سبيل، مهددين لهم موعدين، وأن ينتظروا حكم الله بين الفريقين. إن كانوا هم لا يريدون أن يكونوا مؤمنين: {وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا، فاصبروا حتى يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين}.. لقد دعاهم إلى أعدل خطة. ولقد وقف عند آخر نقطة لا يملك أن يتراجع وراءها خطوة.. نقطة الانتظار والتريث والتعايش بغير أذى، وترك كلٍّ وما اعتنق من دين، حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين. ولكن الطواغيت لا يرضيهم أن يكون للإيمان في الأرض وجود ممثل في جماعة من الناس لا تدين للطاغوت.. إن وجود جماعة مسلمة في الأرض، لا تدين إلا لله، ولا تعترف بسلطان إلا سلطانه، ولا تحكم في حياتها شرعاً إلا شرعه، ولا تتبع في حياتها منهجاً إلا منهجه.. إن وجود جماعة مسلمة كهذه يهدد سلطان الطواغيت- حتى لو انعزلت هذه الجماعة في نفسها، وتركت الطواغيت لحكم الله حين يأتي موعده. إن الطاغوت يفرض المعركة فرضاً على الجماعة المسلمة- حتى لو آثرت هي ألا تخوض معه المعركة- إن وجود الحق في ذاته يزعج الباطل. وهذا الوجود ذاته هو الذي يفرض عليه المعركة مع الباطل.. إنها سنة الله لا بد أن تجري. {قال الملأ الذين استكبروا من قومه: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا، أو لتعودن في ملتنا}. هكذا في تبجح سافر، وفي إصرار على المعركة لا يقبل المهادنة والتعايش! إلا أن قوة العقيدة لا تتلعثم ولا تتزعزع أمام التهديد والوعيد.. لقد وقف شعيب عليه السلام عند النقطة التي لا يملك أن يتزحزح وراءها خطوة.. نقطة المسالمة والتعايش- على أن يترك لمن شاء أن يدخل في العقيدة التي يشاء؛ وأن يدين للسلطان الذي يشاء: في انتظار فتح الله وحكمه بين الفريقين- وما يملك صاحب دعوة أن يتراجع خطوة واحدة وراء هذه النقطة، تحت أي ضغط أو أي تهديد من الطواغيت.. وإلا تنازل كلية عن الحق الذي يمثله وخانه.. فلما أن تلقى الملأ المستكبرون عرضه هذا بالتهديد بالإخراج من قريتهم أو العودة في ملتهم، صدع شعيب بالحق، مستمسكاً بملته، كارهاً أن يعود في الملة الخاسرة التي أنجاه الله منها، واتجه إلى ربه وملجئه ومولاه يدعوه ويستنصره ويسأله وعده بنصرة الحق وأهله: {قال: أو لو كنا كارهين؟ قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها. وما يكون لنا أن نعود فيها- إلا أن يشاء الله ربنا، وسع ربنا كل شيء علماً- على الله توكلنا. ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق، وأنت خير الفاتحين}.. وفي هذه الكلمات القلائل تتجلى طبيعة الإيمان، ومذاقه في نفوس أهله، كما تتجلى طبيعة الجاهلية ومذاقها الكريه. كذلك نشهد في قلب الرسول ذلك المشهد الرائع.. مشهد الحقيقة الإلهية في ذلك القلب وكيف تتجلى فيه. {قال: أو لو كنا كارهين؟} يستنكر تلك القولة الفاجرة: {لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا}.. يقول لهم: أتجبروننا على ما نكره من ملتكم التي نجانا الله منها؟! {قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها}.. إن الذي يعود إلى ملة الطاغوت والجاهلية، التي لا يخلص فيها الناس الدينونة والطاعة لله وحده، والتي يتخذ الناس فيها أرباباً من دون الله يقرون لهم بسلطان الله.. إن الذي يعود إلى هذه الملة- بعد إذ قسم الله له الخير وكشف له الطريق، وهداه إلى الحق، وأنقذه من العبودية للعبيد- إنما يؤدي شهادة كاذبة على الله ودينه. شهادة مؤداها أنه لم يجد في ملة الله خيراً فتركها وعاد إلى ملة الطاغوت! أو مؤداها- على الأقل- أن لملة الطاغوت حقاً في الوجود، وشرعية في السلطان؛ وأن وجودها لا يتنافى مع الإيمان بالله. فهو يعود إليها ويعترف بها بعد أن آمن بالله.. وهي شهادة خطيرة أخطر من شهادة من لم يعرف الهدى، ولم يرفع راية الإسلام. شهادة الاعتراف براية الطغيان. ولا طغيان وراء اغتصاب سلطان الله في الحياة! وكذلك يستنكر شعيب- عليه السلام- ما يتهدده به الطغاة من إعادته هو والذين آمنوا معه إلى الملة التي أنجاهم الله منها: {وما يكون لنا أن نعود فيها}.. وما من شأننا أصلاً؛ وما ينبغي لنا قطعاً أن نعود فيها.. يقولها وأمامه التهديد الذي يزاوله الطاغوت في كل أرض مع الجماعة المسلمة، التي تعلن خروجها عن سلطانه، ودينونتها لله وحده بلا شريك معه أو من دونه. إن تكاليف الخروج من العبودية للطاغوت والدينونة لله وحده- مهما عظمت وشقت- أقل وأهون من تكاليف العبودية للطواغيت! إن تكاليف العبودية للطواغيت فاحشة- مهما لاح فيها من السلامة والأمن والطمأنينة على الحياة والمقام والرزق!- إنه تكاليف بطيئة طويلة مديدة! تكاليف في إنسانية الإنسان ذاته فهذه «الإنسانية» لا توجد، والإنسان عبد للإنسان- وأي عبودية شر من خضوع الإنسان لما يشرعه له إنسان؟!.. وأي عبودية شر من تعلق قلب إنسان بإرادة إنسان آخر به، ورضاه أو غضبه عليه؟!.. وأي عبودية شر من أن تتعلق مصائر إنسان بهوى إنسان مثله ورغباته وشهواته؟! وأي عبودية شر من أن يكون للإنسان خطام أو لجام يقوده منه كيفما شاء إنسان؟! على أن الأمر لا يقف عند حد هذه المعاني الرفيعة.. إنه يهبط ويهبط حتى يكلف الناس- في حكم الطواغيت- أموالهم التي لا يحميها شرع ولا يحوطها سياج. كما يكلفهم أولادهم إذ ينشئهم الطاغوت كما شاء على ما شاء من التصورات والأفكار والمفهومات والأخلاق والتقاليد والعادات. فوق ما يتحكم في أرواحهم وفي حياتهم ذاتها، فيذبحهم على مذبح هواه، ويقيم من جماجمهم وأشلائهم أعلام المجد لذاته والجاه! ثم يكلفهم أعراضهم في النهاية.. حيث لا يملك أب أن يمنع فتاته من الدعارة التي يريدها بها الطواغيت، سواء في صورة الغصب المباشر- كما يقع على نطاق واسع على مدار التاريخ- أو في صورة تنشئتهن على تصورات ومفاهيم تجعلهن نهباً مباحاً للشهوات تحت أي شعار! وتمهد لهن الدعارة والفجور تحت أي ستار.. والذي يتصور أنه ينجو بماله وعرضه وحياته وحياة أبنائه وبناته في حكم الطواغيت من دون الله. إنما يعيش في وهم، أو يفقد الإحساس بالواقع! إن عبادة الطاغوت عظيمة التكاليف في النفس والعرض والمال.. ومهما تكن تكاليف العبودية لله، فهي أربح وأقوم حتى بميزان هذه الحياة. فضلاً على وزنها في ميزان الله.. يقول السيد أبو الأعلى المودودي في كتاب: الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية: «... وكل من له أدنى بصيرة بمسائل الحياة الإنسانية، لا يخفى عليه أن المسألة- التي تتوقف عليها قضية صلاح الشؤون البشرية وفسادها- إنما هي مسألة زعامة الشؤون البشرية ومن بيده زمام أمرها. وذلك كما تشاهد في القطار أنه لا يجري إلا إلى الجهة التي يوجهه إليها سائقه، وأنه لا بد للركاب أن يسافروا- طوعاً أو كرهاً- إلى تلك الجهة نفسها. فكذلك لا يجري قطار المدنية الإنسانية إلا إلى جهة يوجهه إليها من بأيديهم زمام أمر تلك المدنية. ومن الظاهر البين أن الإنسانية بمجموعها لا تستطيع بحال من الأحوال أن تأبى السير على تلك الخطة التي رسمها لهم الذين بأيديهم وسائل الأرض وأسبابها طراً، ولهم الهيمنة كل الهيمنة على أزمة الأمر، وبيدهم السلطة المطلقة في تدبير شؤون الإنسانية، وتتعلق بأذيالهم نفوس الجماهير وآمالهم، وهم يملكون أدوات تكوين الأفكار والنظريات وصوغها في قوالب يحبونها، وإليهم المرجع في تنشئة الطباع الفردية، وإنشاء النظام الجماعي، وتحديد القيم الخلقية. فإذا كان هؤلاء الزعماء والقواد ممن يؤمنون بالله ويرجون حسابه.. فلا بد لنظام الحياة بأسره أن يسير على طريق من الخير والرشد والصلاح، وأن يعود الخبثاء الأشرار إلى كنف الدين ويصلحوا شؤونهم. وكذلك تنمو الحسنات ويزكو غراسها، وأقل ما يكون من تأثير المجتمع في السيئات أنها لا تربو. إن لم تمحق وتنقرض آثارها. وأما إذا كانت هذه السلطة- سلطة الزعامة والقيادة والإمامة- بأيدي رجال انحرفوا عن الله ورسوله، واتبعوا الشهوات، وانغمسوا في الفجور والطغيان، فلا محالة أن يسير نظام الحياة بقضه وقضيضه على البغي والعدوان والفحشاء، ويدب دبيب الفساد والفوضى في الأفكار والنظريات والعلوم والآداب والسياسة والمدنية والثقافة والعمران والأخلاق والمعاملات والعدالة والقانون برمتها، وتنمو السيئات ويستفحل أمرها... « ...» والظاهر أن أول ما يطالب به دين الله عباده، أن يدخلوا في عبودية الحق كافة مخلصين له الطاعة والانقياد، حتى لا يبقى في أعناقهم قلادة من قلائد العبودية لغير الله تعالى. ثم يتطلب منهم ألا يكون لحياتهم قانون إلا ما أنزله الله تعالى، وجاء به الرسول الأمي الكريم- صلى الله عليه وسلم- ثم إن الإسلام يطالبهم أن ينعدم من الأرض الفساد، وتستأصل شأفة السيئات والمنكرات الجالبة على العباد غضب الله تعالى وسخطه. وهذه الغايات السامية لا يمكن أن يتحقق منها شيء ما دامت قيادة أبناء البشر وتسيير شؤونهم في الأرض بأيدي أئمة الكفر والضلال؛ ولا يكون من أمر أتباع الدين الحق وأنصاره إلا أن يستسلموا لأمر هؤلاء وينقادوا لجبروتهم، يذكرون الله قابعين في زواياهم، منقطعين عن الدنيا وشؤونها، مغتنمين ما يتصدق به هؤلاء الجبابرة عليهم من المسامحات والضمانات! ومن هنا يظهر ما للإمامة الصالحة وإقامة نظام الحق من أهمية خطيرة تجعلها من غايات الدين وأسسه. والحق أن الإنسان لا يمكنه أن يبلغ رضى الله تعالى بأي عمل من أعماله إذا تناسى هذه الفريضة وتقاعس عن القيام بها. . ألم تروا ما جاء في الكتاب والسنة من ذكر الجماعة ولزومها والسمع والطاعة، حتى إن الإنسان ليستوجب القتل إذا خرج من الجماعة- ولو قيد شعره- وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم. وهل لذلك من سبب سوى أن غرض الدين الحقيقي وهدفه إنما هو إقامة نظام الحق، والإمامة الراشدة وتوطيد دعائمه في الأرض. وكل ذلك يتوقف تحققه على القوة الجماعية، والذي يضعضع القوة الجماعية ويفت في عضدها، يجني على الإسلام وأهله جناية لا يمكن جبرها وتلافيها بالصلاة ولا بالإقرار بكلمة التوحيد.. ثم انظروا إلى ما كسب «الجهاد» من المنزلة العالية والمكانة الرفيعة في الدين، حتى إن القرآن ليحكم «بالنفاق» على الذين ينكلون عنه ويثاقلون إلى الأرض. ذلك أن «الجهاد» هو السعي المتواصل والكفاح المستمر في سبيل إقامة نظام الحق، ليس غير. وهذا الجهاد هو الذي يجعله القرآن ميزاناً يوزن به إيمان الرجل وإخلاصه للدين. وبعبارة أخرى أنه من كان يؤمن بالله ورسوله لا يمكنه أن يرضى بتسلط النظام الباطل، أو يقعد عن بذل نفسه وماله في سبيل إقامة نظام الحق.. فكل من يبدو في أعماله شيء من الضعف والاستكانة في هذا الباب، فاعلم أنه مدخول في إيمانه، مرتاب في أمره، فكيف ينفعه عمل من أعماله بعد ذلك؟ «... ...» إن إقامة الإمامة الصالحة في أرض الله لها أهمية جوهرية وخطورة بالغة في نظام الإسلام. فكل من يؤمن بالله ورسوله ويدين دين الحق، لا ينتهي عمله بأن يبذل الجهد المستطاع لإفراغ حياته في قالب الإسلام، ولا تبرأ ذمته من ذلك فحسب، بل يلزمه بمقتضى ذلك الإيمان أن يستنفد جميع قواه ومساعيه في انتزاع زمام الأمر من أيدي الكافرين والفجرة والظالمين حتى يتسلمه رجال ذوو صلاح ممن يتقون الله، ويرجون حسابه، ويقوم في الأرض ذلك النظام الحق المرضيّ عند الله الذي به صلاح أمور الدنيا وقوام شؤونها «.. إن الإسلام حين يدعو الناس إلى انتزاع السلطان من أيدي غاصبيه من البشر ورده كله لله، إنما يدعوهم لإنقاذ إنسانيتهم وتحرير رقابهم من العبودية للعبيد؛ كما يدعوهم إلى إنقاذ أرواحهم وأموالهم من هوى الطواغيت وشهواتهم.. إنه يكلفهم أعباء المعركة مع الطاغوت- تحت رايته- بكل ما فيها من تضحيات؛ ولكنه ينقذهم من تضحيات أكبر وأطول، كما أنها أذل وأحقر!.. إنه يدعوهم للكرامة، وللسلامة، في آن.. لذلك قالها شعيب عليه السلام مدوية حاسمة: {قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها، وما يكون لنا أن نعود فيها..}.. ولكن شعيباً بقدر ما يرفع رأسه، وبقدر ما يرفع صوته، في مواجهة طواغيت البشر من الملأ الذين استكبروا من قومه. . بقدر ما يخفض هامته، ويسلم وجهه في مواجهة ربه الجليل، الذي وسع كل شيء علماً. فهو في مواجهة ربه، لا يتألى عليه ولا يجزم بشيء أمام قدره، ويدع له قياده وزمامه، ويعلن خضوعه واستسلامه: {إلا أن يشاء الله ربنا، وسع ربنا كل شيء علماً}.. إنه يفوض الأمر لله ربه، في مستقبل ما يكون من أمره وأمر المؤمنين معه.. إنه يملك رفض ما يفرضه عليه الطواغيت، من العودة في ملتهم؛ ويعلن تصميمه والمؤمنين معه على عدم العودة؛ ويعلن الاستنكار المطلق للمبدأ ذاته.. ولكنه لا يجزم بشيء عن مشيئة الله به وبهم.. فالأمر موكول إلى هذه المشيئة، وهو والذين آمنوا معه لا يعلمون، وربهم وسع كل شيء علماً. فإلى علمه ومشيئته تفويضهم واستسلامهم. إنه أدب ولي الله مع الله. الأدب الذي يلتزم به أمره، ثم لا يتألى بعد ذلك على مشيئته وقدره. ولا يتأبى على شيء يريده به ويقدره عليه. وهنا يدع شعيب طواغيت قومه وتهديدهم ووعيدهم، ويتجه إلى وليه بالتوكل الواثق، يدعوه أن يفصل بينه وبين قومه بالحق. {على الله توكلنا. ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق. وأنت خير الفاتحين}.. وهنا نشهد ذلك المشهد الباهر: مشهد تجلي حقيقة «الألوهية» في نفس ولي الله ونبيه.. إنه يعرف مصدر القوة، وملجأ الأمان. ويعلم أن ربه هو الذي يفصل بالحق بين الإيمان والطغيان. ويتوكل على ربه وحده في خوض المعركة المفروضة عليه وعلى المؤمنين معه، والتي ليس منها مفر. إلا بفتح من ربه ونصر. عندئذ يتوجه الملأ الكفار من قومه إلى المؤمنين به يخوفونهم ويهددونهم. ليفتنوهم عن دينهم: {وقال الملأ الذين كفروا من قومه: لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون}.. إنها ملامح المعركة التي تتكرر ولا تتغير.. إن الطواغيت يتوجهون أولاً إلى الداعية ليكف عن الدعوة. فإذا استعصم بإيمانه وثقته بربه، واستمسك بأمانة التبليغ وتبعته، ولم يرهبه التخويف بالذي يملكه الطغاة من الوسائل.. تحولوا إلى الذين اتبعوه يفتنونهم عن دينهم بالوعيد والتهديد، ثم بالبطش والعذاب.. إنهم لا يملكون حجة على باطلهم، ولكن يملكون أدوات البطش والإرهاب؛ ولا يستطيعون إقناع القلوب بجاهليتهم- وبخاصة تلك التي عرفت الحق فما عادت تستخف بالباطل- ولكنهم يستطيعون البطش بالمصرين على الإيمان، الذي أخلصوا الدينونة لله فأخلصوا له السلطان. ولكنه من سنة الله الجارية أنه عندما يتمحض الحق والباطل، ويقفان وجهاً لوجه في مفاصلة كاملة تجري سنة الله التي لا تتخلف.. وهكذا كان.. {فأخذتهم الرجفة، فأصبحوا في دارهم جاثمين}.. الرجفة والجثوم، جزاء التهديد والاستطالة، وبسط الأيدي بالأذى والفتنة.. ويرد السياق على قولتهم: {لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذا لخاسرون}.. وهي التي قالوها مهددين متوعدين للمؤمنين بالخسارة! فيقرر- في تهكم واضح- أن الخسران لم يكن من نصيب الذين اتبعوا شعيباً، إنما كان من نصيب قوم آخرين: {الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها. الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين}.. ففي ومضة ها نحن أولاء نراهم في دارهم جاثمين. لا حياة ولا حراك. كأن لم يعمروا هذه الدار، وكأن لم يكن لهم فيها آثار! ويطوي صفحتهم مشيعة بالتبكيت والإهمال، والمفارقة والانفصال، من رسولهم الذي كان أخاهم، ثم افترق طريقه عن طريقهم، فافترق مصيره عن مصيرهم، حتى لم يعد يأسى على مصيرهم الأليم، وعلى ضيعتهم في الغابرين: {فتولى عنهم، وقال: يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فكيف آسى على قوم كافرين؟}.. إنه من ملة وهم من ملة. فهو أمة وهم أمة. أما صلة الأنساب والأقوام، فلا اعتبار لها في هذا الدين، ولا وزن لها في ميزان الله.. فالوشيجة الباقية هي وشيجة هذا الدين، والارتباط بين الناس إنما يكون في حبل الله المتين..
|